كرضيع لايعرف سوى أن يتوسط حضن أمه توسطت أنت حضن قلبي، معك كنت سعيدة بنفسي، سعيدة بسعادتك بي، سعيدة حولك ومعك لأنك كنت دائما موجودة، وكنت أنا دائما الأولوية في حياتك. ست سنوات تفرق بين عمرينا. قبل أن أمر بك في طريق حياتي كنت أظن أن عمر الإنسان هو بيته الذي يستكين إليه ويسكن فيه، هو سقفه الذي كلما ارتفع و علا كلما ضم تحته خبرات أكبر ورؤى أعمق، حتى عرفتك فاكتشفت أن عمر الإنسان يقاس بكبر قلبه، فإن كبر واتسع ضم إليه مشاعر شجاعة وحنونة ينهزم لها الكبار
قبل أن يعثر عليك قلبي تعثر بالكثيرين فترددت خطواته وبطأت عن السعي في تكوين الصداقات التي كلما كثرت كلما شلت حركة الواحدة منهم الأخرى فلا تستقيم للإنسان صداقة حقيقية. عندما وجدتك في بلد غريب عنا كنت وحيدة و ضئيلة، نحيفة ومصفرة، تقتاتين رقائق الذرة المحمصة مع الحليب ليل نهار كسلا وإهمالا وانشغالا بالدروس عن نفسك. كنا نشبه بعضنا البعض فكان الأمريكيون يحسبوننا أخوات أب وأم فكلتانا تتحرك بقوام نحيف تغطيه خمرة شمس الخليج وتعلوه صفرة الغربة وتتوسطه حمرة الخجل، لم نكن ننكر على الناس حقهم في تأويل تصرفاتنا الأخوية حتى من قبل أن يترسي معنى الأخوة في قلوبنا فكنا غالبا ما نذيب أصولنا في كوب واحد نقدمه لطالبه بابتسامة دافئه تقول: "نحن عرب من الخليج"، وعندما كان السائل يطلب منا رسما أدق لحدود أصولنا العربية، كنت تسبقينني إليه معلنة: "نحن من الكويت". لم أقل لك يوما كم احترمتك لترفعك عن عصبية المكان والأرض ورفضك –بلا قرار سابق أو تفكير لاحق- للاعتراف بأهمية الأرض في تحديد هويتنا، فكان أول درس تعلمته حينها هو أن لا أفصل نفسي عنك عن اختيار، وحرصت على أن أسبقك في الرد على ذات السؤال في وجه طالبه: "نحن من الإمارات العربية المتحدة
وبعدها تعلمت أن أنصت لكل اختلافاتك عني، فأنا إنسانة رقيقة في شأني ومترددة وأنت إنسانة قوية في شأنك وحازمة. كلتانا تعشق خصوصيتها وتحترمها في الأخرى، لكن سنوات الغربة أبت إلا أن تعرينا فوقفنا متواجهتين في لحظة عري وفي إهمال لأصوات خصوصياتنا وهي تسقط الواحدة تلوالأخرى لتعلن أننا أصبحنا كيانا متحدا لا يفترق
أتذكرين كم كنا نستمتع بارتداء ما تلبسه الأخرى؟ أصبحت ملابسنا ملكية مشتركة، أموالنا ملكية مشتركة، متاعنا ملكية مشركة، عندما كنا نرتب حقائبنا استعدادا لزيارة صيفية في حضن الأهل كنا نتقاسم الملبس ونقرر من منا ستأخذ هذا الفستان أو ذاك البنطال أو هذا الحلق وذاك الخاتم، كنا نذوب ارتياحا في بعض ونذوب حرصا على بعض. وأنا في بلدي أحتضن دفئ شمس الكويت وحرارة ترحاب أهلي فيها كنت أفتقدك. كنت ألتقط القصص في كل مكان وأحملها في كيس يحوي غبار صحراء الخليج ورائحة بحره استعدادا للقياك. كنت أشتاق رقائق الذرة المحمصة معك وأنت تحسبين لي ما استغرقت من وقت في إلتهامي البطيء لها. كنت أشتاق مشاهدة فيلم سينمائي معك وأنت تنصتين لتحليلاتي وتأويلاتي ما تعلق منها بالحس أو الصورة، كنت أشتاق رحلة تسوقية معك وأنت تحاولين حثي على هدم جدار التردد إختصارا للوقت وحرصا على موعد الباص من أن يفوتنا، كنت أشتاق لك وأنت تدعين الأرق وتتسربين في ليلة باردة إلى غرفتي طلبا لدفئ رفقتي، كنت أشتاقك بعفويتك بعصبيتك بهمجيتك بحنوك بغضبك بطيبتك بعاطفيتك وببساطتك
ألا تزالين مدمرة بطبعك ومحبة للتكسير؟ أبتسم وأنا أذكر كم كنت أخاف علينا وأنت في حالة شرود، فمرة قطعت يدك بسكين، ومرة حرقت نفسك بشاي قارب حدود الغليان، ومرة أوشكت أن تكسري لي ضلع ممازحة طبعا، ومرة تلو مرة كسرت نظاراتك الشميسة، ومرات أكثر مزقتي أطراف قمصانك المنزلية، ومرة أوشكت أن تودعي الحياة وأنت تعبرين الشارع شاردة عن باص قادم يستشعر زمجرته الكفيف قبل المبصر.لكنني لم أكن أستشيط غضبا بقدر ما كنت أفعل عندما تستريح يداك السحريتان على أحد أوراقي لتنتج ما يشبه علف الماشية في أقل من دقيقتين
هل تذكرين يوم أن ضلت عني صحتي وضللت أنا الطريق في مطار فيلاديلفيا الدولي؟ أتذكرين كيف أمسكت بأطراف حضنك وبكيت؟ أتذكرين ضعفي وخوفي وحيرتي كيف تلاشوا لأسقط شبه مغشيا علي عندما حضرت لتقليني؟ لم أعتد يوما أن أحتاج أحد بهذا القدر ولا أقل منه بكثير، لم أعهد التعري من إدعاءات القوة والقدرة إلا هناك ومعك
هل تذكرين أمسيات العطل الأسبوعية وكيف كنا نخطط لها طوال أيام الأسبوع لينتهي بنا التخطيط والتمحيص للجدول ذاته: رحلة للسوق المركزي نملؤ بها فم الثلاجة، رحلة لمكتبة الجامعة نملؤ بها عقولنا الدراسية، رحلة للمطعم الأفغاني نملأ بها بطوننا دهنا وعقولنا كسلا وأجسامنا خمولا، رحلة لمحل تأجير الأفلام السينمائية المسجلة (بلوك بستر) لنسهر على صوت رقائق الذرة المحمصة وهي تمضغ مصحوبة بموسيقى خلفية لفيلم رومانسي، ورحلة إلى مكتبة (بارنز آند نوبل) لأسد أنا جوع روحي للقراءة وتسدين أنت بعضا من نهمك لغفوة
هل تذكرين كيف كنا نصلي جماعة وأنا أتحرق شوقا لأن أختم إمامتك لي بصرخة تعلن عن دعاء المصريين "حرماااااااا"، كم كنت أقفز ضحكا متخبطة بثوب صلاتي كطفلة لا تمل تكرار ذات النكتة وأنا أنظر إليك تقفزين خوفا وجزعا وعجزا عن التنبؤ بصرخاتي رغم تكررها. هل تذكرين كيف كنت أهزمك بلعبة الطاولة التي لا أفقه بقوانينها شيئا وعليه كنت أغلبك فيها مرة تلو المرة تلو المرة وأنت ببراءة الطيبة تصدقين وتغضبين من نفسك لخسارتها لي
كيف لك أن تنسي وكيف لي ونحن صنعنا لأنفسنا تاريخا نحكيه لأولادنا قصصا ليلية مطمئنة تبشر بإخلاص موجود وصداقة حقيقية وحب موعود. الأرواح يا صديقتي لا تتلاقى بهذا الإنسجام ولا تلك العفوية عبثا. لقد كنت ولا أزال مؤمنة أنك كنت تجسيدا حيا من رب قادر أجاب دعوى أمي لي بأن يحفظني وييسر علي غربتي برفيق يخافه أكثر مني ويحرص على رضاه
وشكرا بقدر خوفك علي
وشكرا بقدر تحملك لي
هديل الحويل
استيقظت على صوت منبه هاتفها النقال يعلن عن يوم عمل آخر، دفعت بالنعاس بعيدا عنها وهي تجرد نفسها عن ما يغطيها، كانت ترتدي بيجامة قطنية من قطعتين رماديتين سترت أولاهما كل شيء إلا عنقها وكشفت الثانية عن كل شيئ فبانت ساقيها طويلتان ممشوقتان وهما ترتجلان عن علو سريرها وتطآن الأرض
ما أرشق جسدها، أ تراها تمارس الرياضة
لا أدري لكنها حتما تعتني بنفسها
هي بالتأكيد لم تتزوج أو تنجب وإلا
ألا تعلمين أنها أم لطفلين؟ أصغرهما سيبلغ السادسة قريبا
أم لطفلين وهي أرشق وأكثر نضارة منا مجتمعتين؟
زوجها يدرس كذلك ولكن في جامعة أخرى
وهل هو بقدر وسامتها وحسن طلتها؟
لا أبدا . . هو إنسان قصير وسمين و عبوس . . بل ومكروه . . إلا أن من قابل طفليها بشر بأنهم يحذوان حذو أمهما
وأطلقت كل منهما ضحكة حاولت الأخرى كتمها، ومع انحسار المسافة التي تفصلهما عن مدرستهما وقفت الطالبتان لتلقيا التحية واستجابت هي بتحية أدفئ منها وأومأت لهما بدخول الفصل. أراحت مفاتيحها على طاولة الفصل تماما بجانب حقيبتها وانشغلت بجهاز الكومبيوتر استعدادا لعرض ملف توضيحي على طلبتها. في آخر الصفوف جلس طالبين يهمس أحدهما لزميله
ترى ماهي رائحة عطرها التي ملأت الكون للتو؟
لا أعلم . . ولو لم أكن أخجل لسألتها
بصوت هادئ وجاد تنادي بإسميهما "علي . . فيصل . . أرجو منكما إلتزام الهدوء" وتبدأ مع الفصل مشوار رحلة في بحور الأدب المقارن على بساط لغوي عذب لزم عنده ومعه السكوت والإنصات. وتنتهي المحاضرة ليقبل عليها علي وفيصل باعتذار
علي: آسف دكتوره لم أكن أقصد الإزعاج إلا أن فيصل كان يسألني
فيصل: يكذب يا دكتورة هو الذي سألني ما إذا كنت أتعرف على عطرك والله
فتضحك وهي تقول: وهل عرفته يا فيصل؟
فيصل: أبدا يا دكتورة وقد أردت أن أسألك بالفعل
هي: أخبرك بشرط
علي: أشرطي ما شئت
هي: أن يشتريه كل منكما هدية لوالدته في عيد الأم غدا
فيصل: حاضر
علي: حاضر دكتورة تم
تبتسم للإثنين راضية وتتركهما يودعانها وعلي يأمر فيصل بأن يسجل اسم العطر قبل أن ينسياه وهي تصد عنهم لتكشف عن أسنان أبو إلا أن يفصحوا عن ضحكة مكتومة وفرحة
ينتهي يومها قبل أي يجف عطرها وهاهي تفتح باب المنزل استنجادا ببرودته عن نهار صيفي وحار، تدخل من الباب، ترمي بمفاتيحها على منضدة قريبة، تلقي بالسلام على زوجها الساكن إلى جهاز التحكم بالتلفزيون، ينظر إليها طويلا ثم يسأل
ألا تخجلين من ارتداء فساتين الصغيرات هذه؟ ألا تدركين ما بك من عمر؟ ولم لم تستحمي بقارورة العطر إن كنت تريدين لنا أن نختنق بذوقك فيه؟
تستمر في مشيها وهي تخلع عنها كعبيها وتفتح بابا صغيرا يطل على عالم كبير، تنحني لتقبل خد صغيرها النائم، يفتح عينيه ويبتسم لها فتجيبه بابتسامة أعرض وهي تسأل
هي: مرحبا بحبيبي، لا تنم قبل أن تأكل، أين أخاك؟
هو: عند جدتي في الأسفل ينتظرنا على الغداء . . أمي
هي: نعم يا أمي؟
هو: أنت أجمل ما خلق ربي وأعطر ما صنع
تحيط وجهه براحة يديها وتلامس بعطر أنفاسها جبينه وهي تغالب دموعها ثم تنظر في عينيه وتقول
بك دنياي جميلة ولأنك فيها . . . أبتسم
هديل الحويل
إذا فلأطلب هدى، ولكن العالم سيدور بي حول هدى ولن يقف، فأجدني أغرق في بحور معرفة لم أسعى في طلبها، معرفة تدور بي مع تفاصيل طويلة تربط هدى بزوجها وطفلها وأبويها وإخوتها وعملها وصداقاتها ومالها وشكلها، فلا أجد لي مخرجا من دائرة مكتملة الإحكام بدورانها واستدارتها إلا وخيوط التفاصيل تلف حول رقبتي حتى لا أكاد أزفر معها نفسا
ماذا عن غادة؟ صديقتي القريبة سابقا والبعيدة لاحقا. اتفقت معها بعد انقطاع سنين على لقاء طال تسويفه فلا هي طالبت به ولا أنا ذكرته. ربما حان الوقت بنا أن نلتقي الآن، ولكن . . أووف . . سوف أضطر أن أشرح عن نفسي الكثير لأنها تجهل نمط حياتي لبعد اتصالنا ببض، فلن تخلو حكاية قد أرغب أن أحكيها من تمهيدات سوف أتوه بتفصيلها عن هدف حكايتي وحبكتها
ربما أفنان متوفرة، إبنة خالتي النزقة تلك . . سوف يصعب علي أن أعيش جوا صباحيا جادا ومسترخيا معها لطول نفسها في نفخ نيران النكتة، فلا أستطيع أن أوقف للنيران أثرا ولا أجد أمام حرارة السخرية مفرا إلا الرد
إذا فشذى، هي مريحة وظريفة وصاحبة حضور خفيف على نفسي ورأسي المزدحم، إلا أنها تبالغ بإظهار مفاتنها بآلية يصعب معها اقتناء أي نوع من الخصوصية في مجتمع ذكوره بغال مفلوته. فلن أتمكن من رشف قهوتي دون أن يشاركني أكثر من بغل حركة شفتاي. وأنا إنسانة أعشق الخاص في شأني ولا أستمتع بأن تكون لحظات استجمامي الصباحي وأنسي بطفلي مشاع
إذا لا يوجد غيره، لكنني قررت أن لا أطلبه لقاء آخر خاصة وأنه يهملني كثيرا مؤخرا، ولكن لقهوتي مذاق آخر ومختلف معه، كما أنه أحرص مني على خصوصيتي حتى أنه يبالغ بحرصه أحيانا، وهو أيضا سيحترم انشغالي المتكرر في تلبية احتياجات طفلي من غذاء وملبس وتسلية، بل سيرحب بذلك، فأنا ألمح نظرة مستحسنة تطلقها عيناه كلما رمقني أعتني بطفلي، نظرة جميلة وكريمة بمعناها أبت إلا أن تفضح بخل لسانه عن النطق بمعان أجمل
ولكن لا لن أهاتفه لأنني قررت وانتهى. مزاجي عكر جدا، أتخلو حياتي من إنسان يشاركني خيال بهجة صباحية تعطيها مرارة القهوة طعم الواقع؟ حسن إذا سوف أسأله دون أن أجرح كبرياء قرار قطيعتي له، سيكون سؤال مختصر وقصير
أتحرك بضجر واضح وانزعاج مغلف، ألتقط الهاتف وأطلب الرقم، يرن الهاتف عند الطرف الآخر ليجيب صوت ذكوري بخل علي بنفسه ومن بها على أهله. أطلق سؤالي بلامبالاة مصطنعة "هل تود مشاركتي قهوة الصباح في المقهى إياه؟" يجيب بإيجاب مباشر يحرمني من سطور أشغل نفسي بفهم ماتخبئه من معنى.