Blogger Template by Blogcrowds.



كرضيع لايعرف سوى أن يتوسط حضن أمه توسطت أنت حضن قلبي، معك كنت سعيدة بنفسي، سعيدة بسعادتك بي، سعيدة حولك ومعك لأنك كنت دائما موجودة، وكنت أنا دائما الأولوية في حياتك. ست سنوات تفرق بين عمرينا. قبل أن أمر بك في طريق حياتي كنت أظن أن عمر الإنسان هو بيته الذي يستكين إليه ويسكن فيه، هو سقفه الذي كلما ارتفع و علا كلما ضم تحته خبرات أكبر ورؤى أعمق، حتى عرفتك فاكتشفت أن عمر الإنسان يقاس بكبر قلبه، فإن كبر واتسع ضم إليه مشاعر شجاعة وحنونة ينهزم لها الكبار


قبل أن يعثر عليك قلبي تعثر بالكثيرين فترددت خطواته وبطأت عن السعي في تكوين الصداقات التي كلما كثرت كلما شلت حركة الواحدة منهم الأخرى فلا تستقيم للإنسان صداقة حقيقية. عندما وجدتك في بلد غريب عنا كنت وحيدة و ضئيلة، نحيفة ومصفرة، تقتاتين رقائق الذرة المحمصة مع الحليب ليل نهار كسلا وإهمالا وانشغالا بالدروس عن نفسك. كنا نشبه بعضنا البعض فكان الأمريكيون يحسبوننا أخوات أب وأم فكلتانا تتحرك بقوام نحيف تغطيه خمرة شمس الخليج وتعلوه صفرة الغربة وتتوسطه حمرة الخجل، لم نكن ننكر على الناس حقهم في تأويل تصرفاتنا الأخوية حتى من قبل أن يترسي معنى الأخوة في قلوبنا فكنا غالبا ما نذيب أصولنا في كوب واحد نقدمه لطالبه بابتسامة دافئه تقول: "نحن عرب من الخليج"، وعندما كان السائل يطلب منا رسما أدق لحدود أصولنا العربية، كنت تسبقينني إليه معلنة: "نحن من الكويت". لم أقل لك يوما كم احترمتك لترفعك عن عصبية المكان والأرض ورفضك –بلا قرار سابق أو تفكير لاحق- للاعتراف بأهمية الأرض في تحديد هويتنا، فكان أول درس تعلمته حينها هو أن لا أفصل نفسي عنك عن اختيار، وحرصت على أن أسبقك في الرد على ذات السؤال في وجه طالبه: "نحن من الإمارات العربية المتحدة


وبعدها تعلمت أن أنصت لكل اختلافاتك عني، فأنا إنسانة رقيقة في شأني ومترددة وأنت إنسانة قوية في شأنك وحازمة. كلتانا تعشق خصوصيتها وتحترمها في الأخرى، لكن سنوات الغربة أبت إلا أن تعرينا فوقفنا متواجهتين في لحظة عري وفي إهمال لأصوات خصوصياتنا وهي تسقط الواحدة تلوالأخرى لتعلن أننا أصبحنا كيانا متحدا لا يفترق


أتذكرين كم كنا نستمتع بارتداء ما تلبسه الأخرى؟ أصبحت ملابسنا ملكية مشتركة، أموالنا ملكية مشتركة، متاعنا ملكية مشركة، عندما كنا نرتب حقائبنا استعدادا لزيارة صيفية في حضن الأهل كنا نتقاسم الملبس ونقرر من منا ستأخذ هذا الفستان أو ذاك البنطال أو هذا الحلق وذاك الخاتم، كنا نذوب ارتياحا في بعض ونذوب حرصا على بعض. وأنا في بلدي أحتضن دفئ شمس الكويت وحرارة ترحاب أهلي فيها كنت أفتقدك. كنت ألتقط القصص في كل مكان وأحملها في كيس يحوي غبار صحراء الخليج ورائحة بحره استعدادا للقياك. كنت أشتاق رقائق الذرة المحمصة معك وأنت تحسبين لي ما استغرقت من وقت في إلتهامي البطيء لها. كنت أشتاق مشاهدة فيلم سينمائي معك وأنت تنصتين لتحليلاتي وتأويلاتي ما تعلق منها بالحس أو الصورة، كنت أشتاق رحلة تسوقية معك وأنت تحاولين حثي على هدم جدار التردد إختصارا للوقت وحرصا على موعد الباص من أن يفوتنا، كنت أشتاق لك وأنت تدعين الأرق وتتسربين في ليلة باردة إلى غرفتي طلبا لدفئ رفقتي، كنت أشتاقك بعفويتك بعصبيتك بهمجيتك بحنوك بغضبك بطيبتك بعاطفيتك وببساطتك


ألا تزالين مدمرة بطبعك ومحبة للتكسير؟ أبتسم وأنا أذكر كم كنت أخاف علينا وأنت في حالة شرود، فمرة قطعت يدك بسكين، ومرة حرقت نفسك بشاي قارب حدود الغليان، ومرة أوشكت أن تكسري لي ضلع ممازحة طبعا، ومرة تلو مرة كسرت نظاراتك الشميسة، ومرات أكثر مزقتي أطراف قمصانك المنزلية، ومرة أوشكت أن تودعي الحياة وأنت تعبرين الشارع شاردة عن باص قادم يستشعر زمجرته الكفيف قبل المبصر.لكنني لم أكن أستشيط غضبا بقدر ما كنت أفعل عندما تستريح يداك السحريتان على أحد أوراقي لتنتج ما يشبه علف الماشية في أقل من دقيقتين


هل تذكرين يوم أن ضلت عني صحتي وضللت أنا الطريق في مطار فيلاديلفيا الدولي؟ أتذكرين كيف أمسكت بأطراف حضنك وبكيت؟ أتذكرين ضعفي وخوفي وحيرتي كيف تلاشوا لأسقط شبه مغشيا علي عندما حضرت لتقليني؟ لم أعتد يوما أن أحتاج أحد بهذا القدر ولا أقل منه بكثير، لم أعهد التعري من إدعاءات القوة والقدرة إلا هناك ومعك


هل تذكرين أمسيات العطل الأسبوعية وكيف كنا نخطط لها طوال أيام الأسبوع لينتهي بنا التخطيط والتمحيص للجدول ذاته: رحلة للسوق المركزي نملؤ بها فم الثلاجة، رحلة لمكتبة الجامعة نملؤ بها عقولنا الدراسية، رحلة للمطعم الأفغاني نملأ بها بطوننا دهنا وعقولنا كسلا وأجسامنا خمولا، رحلة لمحل تأجير الأفلام السينمائية المسجلة (بلوك بستر) لنسهر على صوت رقائق الذرة المحمصة وهي تمضغ مصحوبة بموسيقى خلفية لفيلم رومانسي، ورحلة إلى مكتبة (بارنز آند نوبل) لأسد أنا جوع روحي للقراءة وتسدين أنت بعضا من نهمك لغفوة

هل تذكرين كيف كنا نصلي جماعة وأنا أتحرق شوقا لأن أختم إمامتك لي بصرخة تعلن عن دعاء المصريين "حرماااااااا"، كم كنت أقفز ضحكا متخبطة بثوب صلاتي كطفلة لا تمل تكرار ذات النكتة وأنا أنظر إليك تقفزين خوفا وجزعا وعجزا عن التنبؤ بصرخاتي رغم تكررها. هل تذكرين كيف كنت أهزمك بلعبة الطاولة التي لا أفقه بقوانينها شيئا وعليه كنت أغلبك فيها مرة تلو المرة تلو المرة وأنت ببراءة الطيبة تصدقين وتغضبين من نفسك لخسارتها لي


كيف لك أن تنسي وكيف لي ونحن صنعنا لأنفسنا تاريخا نحكيه لأولادنا قصصا ليلية مطمئنة تبشر بإخلاص موجود وصداقة حقيقية وحب موعود. الأرواح يا صديقتي لا تتلاقى بهذا الإنسجام ولا تلك العفوية عبثا. لقد كنت ولا أزال مؤمنة أنك كنت تجسيدا حيا من رب قادر أجاب دعوى أمي لي بأن يحفظني وييسر علي غربتي برفيق يخافه أكثر مني ويحرص على رضاه

فشكرا بقدر محبتك لي
وشكرا بقدر خوفك علي
وشكرا بقدر تحملك لي

هديل الحويل



استيقظت على صوت منبه هاتفها النقال يعلن عن يوم عمل آخر، دفعت بالنعاس بعيدا عنها وهي تجرد نفسها عن ما يغطيها، كانت ترتدي بيجامة قطنية من قطعتين رماديتين سترت أولاهما كل شيء إلا عنقها وكشفت الثانية عن كل شيئ فبانت ساقيها طويلتان ممشوقتان وهما ترتجلان عن علو سريرها وتطآن الأرض

أمسكت برباط ولفته حول خصلات شعرها الأسود الطويل بحركة تحترف تطويع شعر طالت عشرتها معه، أخذت حماما دافئا ومرغت جسدها الممشوق برغوة برائحة اللافندر. غسلت وجهها بمستحضر عالمي ثمين يحفظ لها نضارة ما أعطاها الله من صفاء في الوجه، لحقت الغسول بمنظف خاص يفتح المسام على مصراعيها لتشرق البشرة في وجه صباح باكر ومضيء، زادت على ليونة خدها ووضعت مرطبا منعما وواق من أشعة الشمس

توجهت إلى خزانة ملابسها ومدت يدها لتلتقط ما شاء الحظ لها أن تلبس في ذلك اليوم، فستان أزرق طويل وصيفي تعلوه ورود بيضاء صغيرة زينت ياقته التي انحسرت عن رقبتها لتتوسط صدرها، وورود أصغر تقف عند أطراف الفستان كأنها تحرس زرقته. وضعت قليلا من عطر "نارسيسو رودريجس" بين نهديها وخلف أذنيها وعلى رسغيها، وأسدلت شعرها وتركته يأخذ شكل نفسه دون أن تتدخل أصابعها لتقتحم خصوصيته أو تحاول فك تشابكه، إرتدت قرطين ألماسيين صغيرين أبى جسدها أن يتحلى بغيرهما، وأمسكت بحقيبة بنية وهي تحاول أن توازن قدماها لتستريح الواحدة منهما تلو الأخرى وسط حذاء بني عالي

ملأ عطرها مركبتها وهي تتوجه إلى أقرب مقهى لاقتناص موعد قصير مع قهوة صباحية دافئة، وهي على أعتاب المقهى رمقتها بائعة المحل الآسيوية بنظرة إعجاب وهي تقول

waw mam . . I think you are beautiful

فابتسمت شاكرة. عندما هم البائع أن يناولها قهوتها أبدى إعجابه بإطلالتها الصباحية وابتسامتها الحيوية، فقابلت إطراءة بابتسامة أكثر سخاء وهي تقول

Thank you

تركت البائعان خلفها يهمسان لبعضهم البعض وتركت المقهى مبتسمة ومستبشرة بصباح ملؤه إيجابية. عند بوابة الجامعة تركت سيارتها تركن إلى الظل واعتلت كعبيها بخفة متوجهة إلى باب أحد الفصول. ألقت تحية الصباح بكثرة ما استقبلتها. على يمين باب الفصل سكنت طالبتين على كرسيين تسأل الواحدة منهما الأخرى

ما أرشق جسدها، أ تراها تمارس الرياضة

لا أدري لكنها حتما تعتني بنفسها

هي بالتأكيد لم تتزوج أو تنجب وإلا

ألا تعلمين أنها أم لطفلين؟ أصغرهما سيبلغ السادسة قريبا

أم لطفلين وهي أرشق وأكثر نضارة منا مجتمعتين؟

زوجها يدرس كذلك ولكن في جامعة أخرى

وهل هو بقدر وسامتها وحسن طلتها؟

لا أبدا . . هو إنسان قصير وسمين و عبوس . . بل ومكروه . . إلا أن من قابل طفليها بشر بأنهم يحذوان حذو أمهما

وأطلقت كل منهما ضحكة حاولت الأخرى كتمها، ومع انحسار المسافة التي تفصلهما عن مدرستهما وقفت الطالبتان لتلقيا التحية واستجابت هي بتحية أدفئ منها وأومأت لهما بدخول الفصل. أراحت مفاتيحها على طاولة الفصل تماما بجانب حقيبتها وانشغلت بجهاز الكومبيوتر استعدادا لعرض ملف توضيحي على طلبتها. في آخر الصفوف جلس طالبين يهمس أحدهما لزميله

ترى ماهي رائحة عطرها التي ملأت الكون للتو؟

لا أعلم . . ولو لم أكن أخجل لسألتها

بصوت هادئ وجاد تنادي بإسميهما "علي . . فيصل . . أرجو منكما إلتزام الهدوء" وتبدأ مع الفصل مشوار رحلة في بحور الأدب المقارن على بساط لغوي عذب لزم عنده ومعه السكوت والإنصات. وتنتهي المحاضرة ليقبل عليها علي وفيصل باعتذار

علي: آسف دكتوره لم أكن أقصد الإزعاج إلا أن فيصل كان يسألني

فيصل: يكذب يا دكتورة هو الذي سألني ما إذا كنت أتعرف على عطرك والله

فتضحك وهي تقول: وهل عرفته يا فيصل؟

فيصل: أبدا يا دكتورة وقد أردت أن أسألك بالفعل

هي: أخبرك بشرط

علي: أشرطي ما شئت

هي: أن يشتريه كل منكما هدية لوالدته في عيد الأم غدا

فيصل: حاضر

علي: حاضر دكتورة تم

تبتسم للإثنين راضية وتتركهما يودعانها وعلي يأمر فيصل بأن يسجل اسم العطر قبل أن ينسياه وهي تصد عنهم لتكشف عن أسنان أبو إلا أن يفصحوا عن ضحكة مكتومة وفرحة

ينتهي يومها قبل أي يجف عطرها وهاهي تفتح باب المنزل استنجادا ببرودته عن نهار صيفي وحار، تدخل من الباب، ترمي بمفاتيحها على منضدة قريبة، تلقي بالسلام على زوجها الساكن إلى جهاز التحكم بالتلفزيون، ينظر إليها طويلا ثم يسأل

ألا تخجلين من ارتداء فساتين الصغيرات هذه؟ ألا تدركين ما بك من عمر؟ ولم لم تستحمي بقارورة العطر إن كنت تريدين لنا أن نختنق بذوقك فيه؟

تستمر في مشيها وهي تخلع عنها كعبيها وتفتح بابا صغيرا يطل على عالم كبير، تنحني لتقبل خد صغيرها النائم، يفتح عينيه ويبتسم لها فتجيبه بابتسامة أعرض وهي تسأل

هي: مرحبا بحبيبي، لا تنم قبل أن تأكل، أين أخاك؟

هو: عند جدتي في الأسفل ينتظرنا على الغداء . . أمي

هي: نعم يا أمي؟

هو: أنت أجمل ما خلق ربي وأعطر ما صنع

تحيط وجهه براحة يديها وتلامس بعطر أنفاسها جبينه وهي تغالب دموعها ثم تنظر في عينيه وتقول

بك دنياي جميلة ولأنك فيها . . . أبتسم

هديل الحويل


تبا لتلك الكلمة

أحرف من نار

وتركيب من لهب


حرفان مكرران مزعجان

باء وياء . . ثم باء وياء

ووقع الحاء يشبه صوت الفحيح


بئس التفصيل وبئس الكل

بئس اللفظ وبئس المعنى


لكلمة تقهرني

تهزمني

تقتحم بجرأة فاضحة بوابات قلاعي التي ما عادت محصنة


فتبا لكلمة صنعتها لغة لتعاديني

وكيف لي أن أحارب لغة دشنت كلمة بأقوى عتادها

فكونت جيشا من أركان ستة


أولها حاء قوية مندفعة

ثانيها باء أولى مؤلمة

ثالثها ياء سهلة ممهدة

رابعها باء ثانية مستسلمة

خامسها تاء خفيفة مودعة

سادسها ياء جميلة منسحبة


تبا لكلمة ما صار لها معنى حتى نطقها هو فجملها بلسانه حين قالها : حبيبتي


هديل الحويل


أشتهي كوبا ساخنا من القهوة الممزوجة بالكاكاو الأبيض، وأطمح بجلسة هادءة تضمني وطفلي مع شخص دافئ. أين هاتفي؟ هاهوا

لنرى هل أطلب ريم؟ لا فريم إنسانة لحوحة وثرثارة ستقلب رأسي على عقبه وهي تستجدي مباركتي لأفعالها الغرامية التي لم ولن أباركها


إذا فلأطلب هدى، ولكن العالم سيدور بي حول هدى ولن يقف، فأجدني أغرق في بحور معرفة لم أسعى في طلبها، معرفة تدور بي مع تفاصيل طويلة تربط هدى بزوجها وطفلها وأبويها وإخوتها وعملها وصداقاتها ومالها وشكلها، فلا أجد لي مخرجا من دائرة مكتملة الإحكام بدورانها واستدارتها إلا وخيوط التفاصيل تلف حول رقبتي حتى لا أكاد أزفر معها نفسا


ماذا عن غادة؟ صديقتي القريبة سابقا والبعيدة لاحقا. اتفقت معها بعد انقطاع سنين على لقاء طال تسويفه فلا هي طالبت به ولا أنا ذكرته. ربما حان الوقت بنا أن نلتقي الآن، ولكن . . أووف . . سوف أضطر أن أشرح عن نفسي الكثير لأنها تجهل نمط حياتي لبعد اتصالنا ببض، فلن تخلو حكاية قد أرغب أن أحكيها من تمهيدات سوف أتوه بتفصيلها عن هدف حكايتي وحبكتها


ربما أفنان متوفرة، إبنة خالتي النزقة تلك . . سوف يصعب علي أن أعيش جوا صباحيا جادا ومسترخيا معها لطول نفسها في نفخ نيران النكتة، فلا أستطيع أن أوقف للنيران أثرا ولا أجد أمام حرارة السخرية مفرا إلا الرد


إذا فشذى، هي مريحة وظريفة وصاحبة حضور خفيف على نفسي ورأسي المزدحم، إلا أنها تبالغ بإظهار مفاتنها بآلية يصعب معها اقتناء أي نوع من الخصوصية في مجتمع ذكوره بغال مفلوته. فلن أتمكن من رشف قهوتي دون أن يشاركني أكثر من بغل حركة شفتاي. وأنا إنسانة أعشق الخاص في شأني ولا أستمتع بأن تكون لحظات استجمامي الصباحي وأنسي بطفلي مشاع


إذا لا يوجد غيره، لكنني قررت أن لا أطلبه لقاء آخر خاصة وأنه يهملني كثيرا مؤخرا، ولكن لقهوتي مذاق آخر ومختلف معه، كما أنه أحرص مني على خصوصيتي حتى أنه يبالغ بحرصه أحيانا، وهو أيضا سيحترم انشغالي المتكرر في تلبية احتياجات طفلي من غذاء وملبس وتسلية، بل سيرحب بذلك، فأنا ألمح نظرة مستحسنة تطلقها عيناه كلما رمقني أعتني بطفلي، نظرة جميلة وكريمة بمعناها أبت إلا أن تفضح بخل لسانه عن النطق بمعان أجمل


ولكن لا لن أهاتفه لأنني قررت وانتهى. مزاجي عكر جدا، أتخلو حياتي من إنسان يشاركني خيال بهجة صباحية تعطيها مرارة القهوة طعم الواقع؟ حسن إذا سوف أسأله دون أن أجرح كبرياء قرار قطيعتي له، سيكون سؤال مختصر وقصير


أتحرك بضجر واضح وانزعاج مغلف، ألتقط الهاتف وأطلب الرقم، يرن الهاتف عند الطرف الآخر ليجيب صوت ذكوري بخل علي بنفسه ومن بها على أهله. أطلق سؤالي بلامبالاة مصطنعة "هل تود مشاركتي قهوة الصباح في المقهى إياه؟" يجيب بإيجاب مباشر يحرمني من سطور أشغل نفسي بفهم ماتخبئه من معنى.


قبل أن يقفل وأقفل يبتسم ويقول "سوف أصعد لأغير ملابسي حالا، وإن كنت أتمنى أن يكون نهمك الصباحي هذا لشيء خال من الكافيين، علها ذبابات أفكارك وفراشات صدرك تستريح عن مطاردة بعضها البعض يا زوجتي . . يا متعبتي
هديل الحويل



لم هو على وجه الخصوص؟
ما هي أسباب حبك له؟
ما اللذي ترينه فيه و ترتأينه؟


أراني "أنا" .. أرى نفسي أومض في عينيه .. أراني وقد استطعت أن أشعل ما انطفئ وخمد

لم تقولين انطفئ؟

عندما يعتاد الرجل على تجاهل حاجته إلى الحب في امرأته رغم وفرة الكثيرات من حوله، يكون أقوى وأصلب، تكون
نار الرغبة في عاطفة الحب لديه قد خمدت، وكان "هو" قد اعتاد على هذا حتى جئت "أنا" وأشعلتها


متعمدة كنت؟


بل جاهلة .. جاهلة


يحبك؟

............

لم يقل؟


لم يفعل


وأنت؟


لم أقل أنا أيضا


كيف ذلك؟


ولم يقول وأقول ونحن نعلم


تكذبين . . فلو كنت تعلمين لما امتنعت عن إجابة سؤالي الأول فيما إذا كان يحبك أم لا


نحن نعلم بأن القول سيخطو بنا إلى الأمام . . وكيف لنا هذا ونحن نتخبط في أماكننا التي نحتلها الآن . . هل ترانى نحتل أماكننا أم هي التي تحتلنا؟


عن ماذا تتحدثين؟ لا أفهمك


عن الأحوال التي نعيشها . . أم تراها تعيش فينا؟


جعل الحب منك فيلسوفة


بل جعلت الفلسفة مني معتوهة . . تتعطل فيها كل وظائف الجسد الحي إلا العقل . . فهو دائم الإجتهاد والإجهاد


وقادرة أنت؟
قادرة على احتمال ما أنت فيه؟
كيف لك احتمال حبس الكلمات؟
كيف بك وأنت ممنوعة عنه ومجبرة على قطيعته؟


لست بقادرة . . لكنني متحملة . . تحتملني دنياي وأحتملها . . تحملني سعادتي وتحرم على قدماي ملامسة الأرض فأغدو مرتفعة بمشاعر الفرح حينا، وأحمل كلماتي الثقال حينا آخر حتى لأكاد أغرس ثقلها في أرض ملؤها الضجيج


أي ضجيج؟


ضجيج أفكاري وانفعالاتي . . رغباتي ونزعاتي اللائي تزاحمن في عقل ونفس عجزا عن فض الزحام أو حتى تنظيمه


ولم كل هذا؟ لأجل ماذا؟


بل السؤال لأجل من


لأجل من يا متعبة؟


لأجلي أنا . . لأجل التجربة التي أعيشها بملئ كياني . . لأجل ساعات أقضيها معه أحتسبها من عمري الصغير . . لأجل رغبة تشاكسني في حضوره


رغبة بماذا؟


به . . بالالتصاق به . . برشف ماء رجولته . . بإشعاله ومن ثم الذوبان بناره . . بالتوحد معه بإحساس وحركة


وإلى متى ستظل تلك الرغبة تشاكسك فقط؟

تتصورين أنك تستطيعين الصيام عن رجل يثير فيك هذا كله؟


صيامي عنه ومعه . . وليس عنه فقط . . فكلانا يصوم


حتى الفطر


ماذا تعنين؟


كلامي واضح . . متى تنطلق مدافع الإفطار؟؟
هديل الحويل



تؤمن كثيرا بسلطة العقل فهي
لا تغضب
ولا تبكي
ولا تحب
عاشت مع أمها، سمعت عن أبيها، وكتبت في أختها. أرادت أن تسجل كلمات تعنيها، أرادت أن تترجم مشاعر تخفيها، ففعلت، وفي يومياتها كتبت، ويوم سفر أختها سجلت


بكيت! بالأمس بكيت وكنت أظن أنني لا أعرف البكاء، كان يغالبني وينهزم، يضايقني وينصرف. لم يكن بكائي يوما أقوى مني، كنت دائما أتفاخر بسلطتي عليه وأسخر منه ومن إرادته الضعيفة المهزومة، فكل ما كان يقوى على فعله حشرجة غبية يبعثها في صوتي وألم بسيط يخلقه في بلعومي إلا بالأمس
بالأمس أثبت البكاء أنه قادر على انتزاع حقوقه من عيون الآدميين كلهم. رأيت البكاء من بعيد أو ظننت أني فعلت،كان ينظر إلي نظرة مشفقة ساخرة وكأنه بنظرته تلك يعلن للناس أن تلك الفتاة مسكينة

سألته: ماذا لو كنت قد أسلمت ضعف نفسي إليك؟

فأجابني: لكنت أحن عليك من ذراع أمك ولما كنت سالبا منك قوتك. عندها اقترب مني وهمس لي بود: أنا صديق يا أنت ولست عدو

كلمات لن أنساها ماحييت كما لن أنسى ذلك اليوم لأنني فيه بكيت


هديل الحويل






بتسلط لم تقبله نفسي الحرة ألزمنا أستاذ مقرر التحرير الصحفي أيام دراستي الجامعية على كتابة مقال خفيف الظل وساخر، ولأن قلمي جاد بطبيعته لا باختياري رفضت، لكنه امتعض وهدد بسحب درجات علمية من رصيدي الفصلي إذا لم أنصع لقراره، فكتبت مقالي التالي أسخر من مجتمع أبى زعماؤه –حتى أصحاب الفكر منهم- إلا أن يتسلطوا، وحاز المقال بعد ما نشر على إعجاب زملاء الدراسة حتى أصبحت أعرف به.


أعرض المقال هنا الآن لفخري به كدليل على حرية قلمي وإنطلاقة فكري وخفة ظلي


في مدينتنا مفكر، سألنا والينا أن نسخر ونتمسخر


فأجبته: يا سيدي، ومن لم تكن له القدرة؟


قال: يتفكر


قلت: وإن لم يستطع؟


قال: سيخسر


فأجبته: يا والينا، السخرية شيء عظيم، وبسببها قد نهين


قال: لا، أنتم أذكى من هذا وأعقل، وأنا بقدرتكم على الحكم أقبل


فقلت: يا والينا، ربما نطرد أو نفصل


قال: نحن في مفكرنا قد نحقق أو نسأل، لكننا أبدا لا نفصل


فسكت، وبأدب انخرست، لكنني لم أقتنع، ولسوف أمتنع، وعن السخرية سأرتدع، حتى تتحول مدينتنا من مفكر إلى "مفكرة"، وحتى يتحول الفعل مسخر إلى "مسخرة

هديل الحويل


جالسين كنا أنا وأنت نشاهد مباريات فريقي برشالونة و ميلان، استفزني اندماجك مع غيري فتحرشت بك وهدفي الفوز بانتباهك لكنني فشلت، وأهملتني .. وتجاهلتني، فهجرت أريكتك بعصبية أطفأتها لمسة من يدك تستبقيني، وشددتني وأجلستني وضممتني إليك بيد واحدة، واستجبت، وبهدوء سكنت إلى ذراعك، وتعجبت لهدوءك رغم حماستك للمباراة

ومكثت هناك بين ذراعك الأيمن وصدرك أردد قصيدة "شؤون صغيرة" في عقلي، ولم أكد أصل إلى البيت الذي يقول فيه قباني


شؤون صغيرة
تمر بها أنت دون التفات
تساوي لدي حياتي
جميع حياتي
حوادث قد لا تثير اهتمامك
أعمر منها قصور
وأحيا عليها شهور
وأغزل منها حكايا كثيرة
وألف سماء
وألف جزيرة
شؤون .. شؤونك تلك الصغيرة

حتى نظرت إلي أنت مبتسما تشيرإلى انتهاء المباراة، وسألتك "هل فاز فريقك؟" فأجبت محولا نظرك عني "لم يخسر!" ولم أسأل أكثر، ولم تطل أنت النظر إلى الشاشة حتى التفت إلي متسائلا عن سر كسلي، فأجبتك ناعسة وأنا أدفع نفسي داخل صدرك أكثر "السر في ساعديك .. فاسألهما"

وبابتسامة شقية قلت لي "أريتك سر ساعدي .. فأريني سحر يديك وأعدي لنا ما نأكله". وقبل أن تبعد ذراعك عني، وقبل أن أترك أنا صدرك نكشت لي شعري ممازحا وساخرا من قصره قائلا "هذا شعري وهذا شعرك .. فما الفرق بيني وبينك الآن .. ها؟"

وبإهمال متعمد نهضت وتركتك وحدك تقلب في جهاز التحكم تبحث عن ما يستحق المتابعة، فإذا بك تستقر على أحد القنوات الخبرية العربية، وأخذت تتابع أحد التقارير الإخبارية عن الانتخابات الأمريكية الجارية

وقتها أحضرت أنا ما كنت قد أعددته لك مسبقا من طعام، وجلست إليك أرقب وجهك وأنتظر منك رأيا فيما تأكل، فإذا بك ترمقني بوجوم ثم قلت "لماذا أحبك إذا كنت لا أفضل شعرك ولا أستلذ طعامك؟"
فانفجرت أنا ضاحكة وقلت لك "لأنني أكثر من هذا وذاك، ولأنك تفضل مني ما ستحرم منه الليلة

أنت: "لن تجرئي

أنا: "بل سأفعل

أنت: "لن أتساهل معك

أنا: "ستفشل

وهممت تمسك بي لكنني فلت منك ضاحكة متوعدة وأنت تقول لي "لا تلعبي بالنار وأنت لست كفؤ لها!" وأنا أضحك حتى أمسكت بي أخيرا مكبلا حركتي من الخلف بضمة من ذراعيك وأنت تهمس في أذني "قولي لا أريد الآن إن كنت تستطيعين.."

كنت أنت
وكنت أن
وكان هذا ... حلمي البارحة



هديل الحويل








ما هو مصير أناس غرست في جذور كياننا آثارها ثم رحلت؟
كيف نعامل ماض ضم في طياته أجمل وأعذب وأقسى ماعرفنا وعشنا؟
ماهي آلية تنفيذ كثير من نصائح الأهل والصحب بالمضي في حاضر يمهد لمستقبل أكثر إشراقا وتوديع ماض داكن؟
كيف ننفض عن جلودنا بقايا عطشة لماض لم يرتوي بعد وننهض بأنفسنا لنمضي في مشوار حياة تبتدأ؟

رحلة وداع الماضي واستقبال الحاضر رحلة وعرة يقطعها كل منا في دروب منتشرة تطول وتفترق لكنها تعود لتجتمع عند مفرق لافتتين لطريقين رئيسيين هما فلسفتين تستحق كل منهما الدراسة وتتحدا كل منهما الأخرى، الأولى تجسد معنى نسيان الماضي وإهماله، والثانية تقع في فكرة احتضان الماضي بثقله ومتاهاته


أولا: فلسفة النسيان

تقوم على قوة القرار وعلى العملية في التفكير وإيداع الماضي بأحلامه المعلقة وأحزانه الغائرة في ركن بعيد من القلب، يبعد عن العقل بعد الزمن بالحاضر عن الماضي. أتباع هذا الفلسفة يجعلون من الإهمال سيدا وحابسا لمشاعر ومواقف مضت في طريقها مع أناس مضوا من حياتهم، فلا يسمحون لاختلاجات الماضي أن تطفوا على سطح الحاضر، فيسود الحاضر نفسه بقرارات تولدها مشاعر تتعلق بخيوط الحاضر وحدة ، كأن ترفض فتاة الاقتران برجل يلائمها لأنه يحمل اسم حبيب راحل. أصحاب هذه الفلسفة أيضا يجعلون من الإصرار على النسيان خادما لأهداف نبيلة في حاضرهم، كأن يتناسى رجلا ماضيه مع حبيبة مضت عنه آملا في أن يسعد مع زوجة رضي بها ورضت به


أصحاب هذا الفكر يتحدون الماضي بشدة رغبتهم في نسيانه والمضي قدما، هم أناس يقسون على أنفسهم ليتمكنوا من الاستمرار في حاضر هو أولى بهم. فلسفة النسيان هي فلسفة تقوى على واقع قسى على من عاشه، وهي سياسة فكرية تهدف إلى ترويض النفس على القبول بواقع يقل ألمه وإن اشتد عن ألم ماض طال بمن عاشه


الألم على ما مضى عند أصحاب فلسفة النسيان هو إحساس مخيب للأمل وجب التخلص منه كما يحدث لعضو عاطل وخرب قادر على أن يفتك بصحة الإنسان مما يوجب بتره عن جسد حامله. فالألم "العاجز" رفيق للشقاء الممتد والطويل الذي يلزم إيقافه عند حدود حاضر يبشر بمستقبل هين ولين. الأمل بالحاضر يفعل بأصحاب هذه الفلسفة فعل الدواء المسكن لألم جروح الماضي، فيكون حاضرهم هو ضماد الجرح الذي يدفن الماضي في طياته حتى لايشعر المرء بألمه، فيخطوا بنفسه القديمة ونفسيته الجديدة في رحلة مستبشرة بخير قادم


ثانيا: فلسفة الاحتواء

هي فلسفة أرق من سابقتها في تعاملها مع الماضي، وهو فكر يتبنى الرفق بحامل تجارب الماضي بأفراحة وآلامه. أصحاب هذه الفلسفة لايريدون أن يقووا على ماض بذلوا فيه ما أوتوا من قدرة على العطاء والتضحية، بل يعتمدون على حبهم للماضي في تطبيب جروحهم، فإذا كانت الأحلام الماضية قد أخذت من النفس ما أخذت من سنين طويلة، وإذا كانت الأماني والطموح والأسماء والأماكن والكلمات تغلفت بغلاف الماضي البعيد، فلا بأس من استحضارها في حاضر يعيشونه مع أناس آخرين، فالحلم بالسعادة هو ذاته، والأمل بهناء العيش هو ذاته، والرغبة بالتوحد مع إنسان بقية العمر هي ذاتها، لذا كان من الأولى بالإنسان أن يصون أحلامه ولاينكرها على نفسه وإن رحل عنه من تبناها معه في يوم ما


يعتقد متبني هذه الفلسفة أن الانسان يخون ذاته عندما يهرب من ماضيه، وأنه بهروبه ذاك يقتل تجربة إنسانية حقيقية خطت به في طريق النمو النفسي والفكري والحسي. المحتوون لماضيهم أناس تعبوا اللحاق بما فات واختاروا استثمار أحلام الأمس في حاضر اليوم، فلا بأس من أن تتزوج فتاة من رجل يحمل سمات الحبيب السابق الجسدية والحسية ما دامت أحبت نفسها في ماض رحل مع الأول وتصافت مع نفسها على أن تحبها في حاضر تعيشه مع الثاني. ولا بأس في زوج اختار أن يرحل بزوجة الحاضر إلى عاصمة طالما اشتاق زيارتها مع حبيبة الماضي، فهو هنا يرى أنه بتحقيقة لجزء من حلم الماضي يطلق صراح رغبات وأحلام حبست نفسها في قمقم "ما فات" حتى أوشكت أن تحبس معها هناء البال وصفاء القلب


أصحاب فلسفة الاحتواء لا يقلون نهما للمضي قدما واستمرارية البقاء عن أصحاب فلسفة النسيان لكنهم يشبعون نهمهم عن طريق تغذية أجزاء من جوع الماضي حتى تترك مجالا لجوع جديد يشتاق تجارب وآمال وأحلام مختلفة مع أناس جدد ومختلفين. المحتوون يؤمنون بأن في إهمال الجوع القديم زيادة في تعذيب النفس فلا تكاد تقوى على الاستمرار في حاضر قد يفشل إذا ما قوبل بقلب محروم ونفس مكسورة وعطر ماض جف على جلد حامله


جروح الماضي العميقة عند المحتوين بحاجة لأن تتنفس هواء الحاضر حتى تشفى، هم أناس يعتقدون بأن في تغطية الجرح وتضميده هروب من ألم الماضي إلى ألم الحرمان من ذاك الماضي، فلا يلعب الحاضر هنا أكثر من دور المتفرج على نزاع مابين الانسان ونفسه التي تقاسمها يوما ما مع من أحب بإخلاص. لذلك فإن المحتوون يدربون أنفسهم على حمل ماض ناقص وإشباع نقصه في حاضرهم بفكر خلاصته: أن يقبلوا بما لايمكن لهم تغييره، وتغيير مافي استطاعتهم تغييره، وامتلاك الحكمة الكافية التي تمكنهم من معرفة حدود قدراتهم عند أعتاب كل من الاثنين


فأي الفلسفتين تتبنى أنت؟



هديل الحويل


أختاه، يغمرني إحساس عميق وداكن بأنني سأموت وأنا ألد صغيري. لايخيفني إحساسي بقدر مايربكني، فأجدني أخطط للأشهر المقبلة منعلى أساس أنني مفارقة الحياة قريبا. لاأخاف الموت فهو راحة، ولم أعشق الحياة يوما، فطبيعتي المظلمة قليلا ونفسي الحساسة كثيرا ووفرة المدعين من حولي يحولون دوني ودون رؤية أكثر إشراقا للعالم. لذلك أختار أن أسجل لك وصية لإنسان أنا أكيدة بأن فراقي سوف يشقيه (هو صغيري\صغيرتي

في بادئ كلامي أريد أن أؤكد على أنني أرغب لطفلي أن يكون في حضانة أمي حتى يبلغ سنته الأولى فأمي وحدها قادرة على إعطاءه حنانا وحسا يكمل بهما ماشاء الله له من عمر، لكن أمي كبرت، وأخذنا منها نحن والسنون أجمل ما أعطت فأضحت على حال تستحق فيه أن تأخذ لا أن تقدم أكثر. لذلك أريد لطفلي أن يؤول إليك بعد سنته الأولى فأنت وحدك أهل لثقتي وأنت أقوى وأصدق وأشجع من عرفت من نساء. فأوصيك يا أختاه بطفلي الذي لا أئتمن عليه روحا غير روحك المحبة لأختك الصغرى، إرعيه وربيه كما كنت أنا سأفعل. ولأنك أقرب الناس إلى بيئتي وأعلم الناس بظروف نشأتي وأفهم الناس برغباتي وأكثر الناس دراية بما كنت سأحب لطفلي أن يكون، لأنك هذا كله كان لك وحدك أن ترعيه، فأحبيه يا أختي فهو بعض مني عندك، على أنني أتمنى أن يستقي منك بعضا من فرحك وإقبالك على ما تلون في الدنيا بألوان عجزت عينا أختك عن رؤيته

أختاه، إزرعي في طفلي ثمار الحرية، إسقه بعضا من تمرد أمه الفكري وأخبريه أنه لا يوجد سقف لسماء الفكر ولا رادا للعقل عن طرق كل باب. علميه أن أمه عاشت حرة في رأسها وإن شاءت ظروف نشأتها في مجتمع كمجتمعها أن لا تتمتع بنفس القدر من الحرية في عيشها، إلا أنها كانت دائما ترى نفسها حرة وهي تختار حاضرها وترسم طريق مستقبلها بوحي من قناعاتها وحدها لا بقناعات تعرض أو تفرض عليها. فقرأت في العقيدة وفكرت وقرأت في الفلسفة وفكرت وقرأت في التاريخ وفكرت وقرأت في الاجتماع والنفس والحب والأدب وفكرت حتى تكونت عندها قاعدة فكرية تسكن إليها متى احتاجت

أختاه، إروي طفلي بمياه العطف والحب. فمتى كبر قلب المرء فينا صغرت احتياجاته إلا عن حاجة واحدة (هي الحب). بالحب وحده يكون طفلي إنسانا لا رجلا أو امرأة فقط، بالحب يكبر ويعلى حتى لايكاد يلمس الفضاء، بالحب وحده سيجد سببا يعيش لأجله. علميه أن الحب شرف وجب على حامله أن يحفظه، والحب وسيلة يجمل ويكمل الإنسان فيه عمره لاغاية، فحين يتحول الحب إلى غاية يفقد الإنسان هناء العيش وراحة البال. أخبري طفلي أن أمه عاشت بحب ماعاشت، وأنها لم تكن لتعيش لولا أنها أحبت. وإن كان صغيري (طفلة أنثى) فأخبريها أن حب الأهل ينبوع يحفظ لها استمرارية قدرتها على حب نفسها ومن أحبت من الجنس الآخر، وإن جف ينبوع حب الأهل عند أي فتاة واختارت أن تهمش إحساسها بأهلها، عجزت عن إصلاح شأنها في حبها فباتت متخبطة المشاعر عاجزة عن صون حبها ونفسها مع من يستحق. وإن كان صغيري (طفل ذكر) فأخبريه بأن الحب وليس غير الحب يستطيع أن يقويه على هم العيش ووحشة الطريق. أخبريه أنه بالحب يفهم ويقدر ويتحمل، وبأن رجل دون حب كمبنى خرب لاتسكنه إلا الهواجس والأفكار. على أن يبدأ بحب ربه في أهله أولا وحب الله في الناس فلا يتسلى بقلب امرأة يوما ولا يقوى على ضعف أحد أبدا. وإن أقبل صغيري يوما على الزواج فقابليه بوصية واحدة: أن يختار بقلب محب وعقل نير، وإن أشار عقله عليه وعارض إحساس قلبه، كان خير له أن يأخذ برأي عقله لأن القلب متحول وجامح يضر بتحوله وجموحه والعقل موجود لترويض القلب وإيثار المصلحة على الضرر، على أن يرجح عقله هو أولا ثم عقل من استوثق من ناس

أختاه، علمي صغيري أن الصداقة دعامة للنفس ومسند للهم و صلة مع الغير. أخبريه أن صداقات أمه بدأت بالكم وانتهت بالكيف، فكان لها أن تصادق أناس عدة كشفتهم الظروف وعرتهم الأيام حتى بان منهم مابان. وعلى الرغم من الخديعة والإدعاء والتمصلح والتقلب لم تزل أمه مقبلة على صداقات أثبتت نفسها ووثقت عامودها في قلب أمه فكانوا هم أصحاب القلب والعقل والنفس. تلجأ لبصيرة عقلهم وتحتمي بدفئ كلامهم من قيظ الألم ووحشة الروح. فليعلم صغيري أن الأهل والحب وعلاقات العمل لا تغني الإنسان عن صاحب يقويه على ضعف نفسه وقسوة الحياة

أختاه، إجعلي من العمل أساسا تبنى عليه شخصية صغيري فليدرك منذ أن يدرك أن العمل يسد الحاجة ويرد العوز وبأن الطموح في العمل يضمن للإنسان حسن البقاء. فدعيه يا أختي يعمل من أجل نفسه وأهله، ويساعد في ترتيب شأنه وشأن أسرته بدءا من ترتيب السرير وهو صغير وانتهاء بتأمين مؤونة الأهل وهو كبير. أخبريه أن بالعمل وبالاختلاط بالناس يفهم الإنسان حدود طاقاته فيقوى على ماهو أصعب من مهام أو يرضى بحسن إتقانه لعمله ويقف عنده. المهم أن يعمل ويبحث عن عمل آخر ويعمله حتى يجد نفسه في مهنة وجدت له أو وجد هو لها. قولي لصغيري أن أمه لم تكره بقدر ما كرهت الفراغة من العمل، فالفراغ يقتل الرضى عن الذات ويثير النفس على النفس فيهم الإنسان بتمرير وقته بما لاينفعه وغيره أو قد يضره وغيره في أحيان كثيرة. أما النفس العاملة فتهوى الراحة وتقدر الطمأنينة لحاجتها إليها بعد طول جهد

أختاه، أحبك لصبرك ولجهدك في محبتنا ورعايتنا نحن أسرتك وصغيري إن شاء الله له البقاء من دوني لن يكون تعيسا لفقداني بقدر يفوق سعادته بحاضنة لوليد أختها وفاطمتة عن ذل فقدانه لأمه

هديل الحويل


توفي راشد عن شريكة روحه أمل بعد رحلة علاج مرهقة تخللها فراق طويل ورحلات متكررة لمستشفى لعلاج السرطان في العاصمة الإنجليزية لندن. هذه رسالتي إلى صديقة خطوت بها يوما ما في أظلم ممرات روحي وأصفاها نورا. هذه رسالتي إلى أمل أعزيها في فقيدها راشد وفي ثماني سنوات ظنت أمل أنها استثمرتها بري جذور أسرة تجمعها براشد، لكن ري زرعها توقف مع خبر وفاته، وتسرب الماء من يد عمرها الباقي حتى باتت يدها خالية عن إعطاء شيء لأحد . . حتى أنا

صديقتي أمل
لا أدري إن كنت أفضل أن أناديك ب (أملي) أم (أمله)، فكلما هممت بكتابة كلمة (أملي) أحسست بعتب راشد يغتال يدي وكأنه يستوقف قلمي ويسترضيه أن يستمر في إعلان حقيقة أنك لاتزالين أمله هو، فلا تملك يدي وهي تمسك بقلمها إلا أن تحول الكلمة إلى (أمله). لكنني أعود وأشعر بأن لي فيك حق لا يستطيع حتى راشد بعتابه الموجع أن يحرمني منه، ففكي لي هذا اللغز يا صديقتي واسترضي من شئت فينا، فكلانا راض لأن كلانا أحبك بمقدار اختلفت مكاييله وتشابهت ماهياته، فقد كنت أمله في دنيا خلت من الحب حتى استاحشت، وكنت لي أملي في دنيا ضاق بها الأصحاب وضاقت بهم حتى تسربوا واحدا تلو الآخر ولم يبق لي فيها كثيرون

صديقتي
هل تذكرين حين كنت أحدثك عن الحزن؟ كنت أشرحه لك، أقربه منك، وأدعوك للتعرف إليه واحترام طاقاته، كنت أخشى في نفسي يوما تضعك الدنيا في مواجهته فتعجزين عن فك رموز ملامح ذلك الحزن فتغمرك مشاعر الوحدة ويعلو دنياك رماد اللون الأسود
كنت أخاف منك عليك، فقوة الإنسان منا كطوق من الحديد صعب أن تكسره هزائم الدنيا، لكن سهل أن يلتف حول مشاعر المرء فينا حتى لا يكاد يفارقه إلا وهو يسحب معه سعادة ذلك الشخص ورجاؤه في الحياة

أنا قبلك عرفت الحزن وألفته، لم يحزنني فقداني لأب لم أستشعر حنانه بقدر ما أحزنني جرح أم تحممت بحنانها حتى كدت أغرق ولم أزل ظمآنة له. كان النظر إلى أمي بقوتها .. بعظمتها .. بشجاعتها .. بحبها .. بدفئها .. برائحة الألفة تفوح من جلدها هو بحد ذاته مصدر حزن لي
تعرفت على الحزن لأول مرة في حضن والدتي، فكانت هي صاحبة الفضل في أن ألفت الحزن، فلم يعد يخيفني ظله. حبيبة هي أمي ووفية .. كبيرة هي أمي ومخلصة.. كريمة هي أمي وحنونة .. مجروحة هي أمي وحزينة
عند لوحة لدموع أمي التي ما فارقني رسمها منذ انحدرت في عام 1991 تشكل رسم حياتي أنا. عند تلك اللوحة التي أطرها ثقب في الباب كان هو نافذتي على حجرة أمي، وفي تلك الليلة التي ظهرت لي فيها أمي أرق من وردة فارقها عبيرها ولم تفارقه، في ذلك اليوم من ذاك الشهر وفي تلك السنة استنشقت عطر الحزن يفوح من دموع أمي، وأحببت الحزن لأنه منها، وقطعت على نفسي عهدا بأن لا أصرف في حياتي جهدا لطرد الحزن من دنياي، بل سأفتح له أبوابي وأستقبله بصدر فيه بعضا من قوة وعظمة وشجاعة أمي

صديقتي
أقاسمك بعضا من أحزان حياتي، وأستجديك بحق حزننا على فقدان راشد أن تخلقي للحزن مكانا في نفسك
لا تعذبي الحزن بك ولا تعذبي نفسك به، فحق الحزن "كموجود" أن يتنفس بعضا من سعادتنا كي يعيش، فدعيه يعيش، لأنك بقتلك له ستقتلين آخر أثر تركه لك راشد قبل رحيله، فقد رحل راشد لكنه استأمن عندك ما بقي في حقيبة سفره الأخير، حقيبته التي كانت تحمل الخوف والحزن والألم، فكان رحمه الله وعطر مثواه محبا لك في رحيله عنك حتى أخذ معه الخوف والألم وترك لك الحزن وحده
الحزن بعض من راشد عندك، فاحتضنيه، واسترضيه، وآمني بقدرته، ولا ترفضيه بدموعه ونحيبه وعويله

لن تكون هذه آخر رسالة أكتبها لك بخط يدي، فلقد آثرت المخطوط عن المطبوع لأنني أؤمن بأن في الخط حس لا تعجز عينا صديقتي عن لمسه وشمه

أحبك . . أسجلها تحت عامود ضوء أصفر وظلال شجرة خريفية مصبوغة بحرقة الأحمر

من حمامتك التي لن تكف عن هديلها طالما بقي فؤادها في جناحيها . . هديل

الولايات المتحدة الأمريكية
3- نوفمبر- 2005
9:35 مساء


هديل الحويل


الكلمة يد
الكلمة رجل
الكلمة باب
الكلمة نجمة كهربية في الضباب

تلك كلمات أغنية "محمد منير" في مقدمة برنامج محمود سعد (البيت بيتك) على الفضائية المصرية


الكلمة عشقي الأول، آمنت بإعجازها منذ فهمي لمعناها. علاقتي بالكلام أصيلة زاد من قوة رباطي بها حرماني منها في فترات طويلة من

عمري القصير. فعندما كنت طفلة تأخر بي النطق عن إخوتي وباقي أبناء عمري. لم تترك والدتي طبيب متخصص إلا وطرقت بابه، راجعت طبيب الأنف والحنجرة، وطبيب الأذن والسمع، وطبيب النطق، وطبيب النفس، كلهم أجمعوا بانتفاء وجود سبب عضوي أو خلل نفسي يمنع نطقي، وبأن تأخري ليس له دلالات محددة

وفي ظهر يوم وأنا في عمر الثالثة جلسنا أنا واخوتي أرضا بمنزلنا الكبير نحيط بأمي وأبي وجدتي على سفرة الغداء، وإذا بالجميع يتفاجأ من طلاقتي في التعبير ووضوحي في الكلم عندما أعلنت لأمي عن رغبتي بصلصة الطماطم (الدقوس) وسكت. وارتسمت إبتسامة تعلوها ملامح الدهشة على وجه أمي، وجلجلت ضحكة أبي الغرفة صائحا بصوت أرجفه شهيق القهقهة وزفيرها : "تلك هي ابنتي، ألم أقل لك يا أمها؟"

وتكلمت هديل، لكنها –برواية الكل- لم تبالغ باستخدام الكلم، فكان قولها نادرا إنما بليغا معبرا. وغاب والد هديل عن الحياة وهي في سن الثامنة بإثر سكتة قلبية في صباح يوم رمضاني، وانطفأ مع غيابه ضوء لسانها وغابت فصاحة قولها. وبدأت رحلة البحث عن متخصصين آخرين في الأنف والحنجرة، والأذن والسمع، والنطق والنفس بلا عائد، واستمرت طفلة الثمان سنوات تعاني من مشاكل في النطق حتى بلغت الرابعة عشرة من العمر. رفضت هديل أن تجيب جهاز الهاتف طوال تلك السنوات وما تلتها من سنوات قليلة، لم تكن تشتبك مع قريباتها وزميلاتها بحوارات طويلة قد تجهد نفسها الضعيف ونفسها الحساسة، لم تكن تسجل درجات دراسية جيدة في مادتي اللغة العربية والثقافة الدينية لعجزها عن تلاوة قصائد اللغة وسور القرآن. وباتت التأتأة أحد ملامح شخصية البنت حتى سمعتها والدتها خلسة عنها ترتل القرآن وتجوده تجويدا دمعت له عينا أمها التي أذهلها جمال الصوت وإتقان اللفظ وحسن الأداء

وعليها، بدأت رحلة جديدة لإقناع هديل بتلاوة كلام الله على مسمع إخوتها، ومن ثم كبار أفراد العائلة، ومن ثم كبار مدرسات المدرسة، ومنها إلى تلاوة القرآن في إذاعة المدرسة الثانوية صباح كل يوم، ومنها إلى المشاركة في مسابقة حفظ وتجويد القرآن لمدارس الثانوية فازت فيها هديل بالمركز الثاني على مستوى مدارس الدولة. وعنها استعادت هديل قدراتها اللفظية وثقتها النفسية شيئا فشيئا فوجدت في تلاوة قرآن الله صاحبا لوحشة لسان لم يجد –منذ سنين- ما يستحق أن يقال

ومنذ تلك السن وحتى هذه، تكلمت هديل بقناعة : "ألا تقول مالا يستحق أن يفهم"، والتزمت أمام كتاب الله أن لا تسيء استخدام نعمة هي من أكثر الناس تقديرا لها لحرمانها منها سنين طالت بها هي وحدها
وما أجمل الكلمة حين تفهم ببلاغتها، وحين تحس بمعناها، وحين تصان بهدفها فلا تصيب إلا من جذبها لنفسه. تكون قاسية فتوقع جرح السلاح في النفس، وتكون هينة لينة فتأتي بأثر الدواء بعد طول داء، شرط أن تكون في حالتيها (صادقة) و (حقيقية) يقصد بها (عدل) لا إفتراء)


هديل الحويل



إجتمعت معه أخيرا على أرض كوكبها، كانت دائما تراه في مكانه المريخي، على كرسيه وخلف مكتبه، التقت به مرات ومرات في المكان نفسه الذي عرفته فيه، في المكان الذي ينتمي هو إليه، رأته في مكانه ذاك كبيرا رغم تواضعه، يلاطف فلان ويمازح فلانة، أحبت ظرفه، أدبه وبساطته، ورغم هذا وذاك أحبت عظمته

هو قاموسها، هو كتاب الشعر والفلسفة والطب والرياضة الذي اعتادت على فتحه عند الحاجة ودون حاجة. أكبر من انجذاها الأول إلى هدوءة وسكينته كان انجذابها إلى خيوط حمراء مشتعلة في عيناه الجادتين كلما شاركها همومه السياسية. كانت تشهد حرقة في كلامه وإشارته كلما حدثها عن سياسة بلده، عالمه العربي و أرضه الإسلامية

إنجذبت لذلك كله، وأضافت إلى هذا انجذابا جديدا من نوع آخر هو انجذاب امرأة لرجل. تذكر أول مرة أرادت فيها أن ترتمي في أحضانه وتترك نفسها له يطبع شفتاه أينما شاء على وجهها، تذكر يومها كيف أبصرت فيه حنان الرجل واحتواءه عندما أمسك بطفل صغير في حضورها لأول مرة. كيف حمله، كيف تعامل معه، وكيف احتضنه، كان يقطر رقة وعذوبة، وكم حسدت الصغير على حضن تمنته لنفسها حينها. عندها أدركت إهمالها لما كان دائما مدركا بالنسبة إليها، لكن إدراكها هذه المرة اختلف، هذه المرة مسح الإدراك الابتسامة من على رسم وجهها. زوج هو لامرأة أعطته طفلين هما أقرب إلى ملاكين منهما إلى بشر. كانت في السابق تتجاهل عن دراية ووعي ظروفه الاجتماعية لأنها لم ترد تحميل ضميرها – الذي وصفه هو مرة بأنه صاح جدا – ما ليس له طاقة على حمله

وهكذا ظلت مشاعرها تجاهه تنمو، وظل وجوده في حياتها يتأكد، حتى أضحى يومي الإجازة الرسمية واللذين لم تكن قادرة فيهما على التواصل معه أكره الأيام إلى نفسها

كان يهاتفها هو من المكان الذي يتواجد فيه، في الوقت الذي يختاره أو يقدر عليه، وكانت دائما تلتقي به في مكتب عمله، يتحدثان، يضحكان، يتشاركان الهموم، وكان في ذلك متعة تغذي يومها، حتى التقته في يوم صيفي خارج حيطان ذلك المكتب، لم يكن لقاؤهما هذه المرة أقل ولا أكثر، تحدثا، ضحكا، وتشاركا الهموم كعادتهما، لكنها لسبب ما رأته مختلفا عن نفسه
هل تحالفت أضواء المقهى الذي التقته فيه ليلا مع الشعر الأبيض في رأسه حتى بدا لها عمره أكثر وضوحا؟ هل ذكر أحد المتواجدين في المقهى اسم أحد أبناءه؟ ما الذي استفز فيها فكرتين عجزت عن تهدئتهما، فكرتان تخرس الواحدة منهما الأخرى، هو أب وزوج .. هو أب وزوج
كانت في السابق تتجنب ذكر زوجته أو أحد أبنائه بالسؤال أو التعليق مهما كانت صادقة في سؤالها حسنة في تعليقها، إلا أنها ألفت الفكرة ليلتها. لماذا لم تتضايق للمرة الأولى؟ كانت دائما حقيقة ظروفه تعكر عليها صفو لحظاتها الجميلة معه على الهاتف أوعند لقائها به إلا في لقائها هذا


خرجت من اللقاء وأفكارا محبطة تتسابق إلى ذهنها
أول لقاء لي معه .. أول لقاء ليلي معه .. أول لقاء ليلي خارج مكتبه .. كان لطيفا ودودا كعادته .. كنت دائما تواقة للقاء كهذا .. كنت أخاف أن يزداد تعلقي بهذا الرجل أكثر وأكثر .. لم أتوقع منه ملاطفة كلامية .. لم أرد منه أن يضع على ضميري "الصاحي جدا" عبئا من أي نوع .. لم يفعل .. رأيته أبا .. هو أب فعلا!! ألفت حقيقة كونه أب لأول مرة .. انطفئ شيء ما في نفسي تجاهه .. لاحظت كبر سنه .. لم يرق لي وجودي معه حينها .. لم يعجبني وجودي معه في المقهى .. لم يعجبني "هو" وهو موجود معي في المقهى .. لم ترق لي صورة أولى طبعت لنا في واقعنا معا لا في خيالي أنا وحدي .. اختلف علي الأمر .. بل اختلف علي الأمران واقعه وخيالي .. ألم تكن مشاعري تجاهه حقيقية؟ لم النفور؟ هذه أرض مشتركة بيننا نحن الاثنين .. أرض يختلف هواؤها .. هل اختلف الهواء فعلا أم استنشاقي أنا له اختلف؟ هو نفسه اختلف .. ليس هو ذاته .. ولا أنا ذاتي معه .. لطيفا لازال .. مهذبا لازال .. عميقا لازال .. وكبيرا لازال .. شيئا ما صغر في نفسي أنا لا فيه هو .. شيئا ما حدث في تلك الليلة ولكن ماهو .. ماهو؟


هديل الحويل

Newer Posts Home